تخيل أن تنجب طفلاً يعاني صعوباتٍ في النمو، يظهر ذلك واضحًا في شكل رأسه الكبير على نحوٍ مريب، مشيته المائلة التي تأخرت حتى الرابعة، ليس بمقدوره تزرير قمصانه مع الكثير من الصعوبات في المهارات الحركية، وفي يومه الأول للمدرسة طُرد لتسببه في تخريب داخل الفصل.
إن أقرب التوقعات لمستقبل هذا الطفل أنه لن يفلح في الدراسة، وسيظل محتاجاً إلى العون في شئونه اليومية، وهي أمور صحيحة تمامًا حدثت فيما بعد في حياته، لكنها ليست القصة كاملة.
دعني أخبرك أسراراً أخرى عنه، لقد قرأ في حياته نحو 12 ألف كتاب، يتذكرها سطراً بسطر، لقد كان بمقدوره أن يقرأ صفحتين في آن واحد بكلتا عينيه، عين على كل صفحة، إذا أخبرته عنوان منزلك فسيخبرك من هم جيرانك ومن سكنوا قبلهم، لأنه ببساطة يحفظ دليل الهاتف، أخبره عن أي مكانين في مدينتين مختلفتين، ويخبرك بدقة كيف تصل بينهما لأنه يحفظ كل شبرٍ من الخريطة، أخبره عن تاريخ ميلاد إسحاق نيوتن ويخبرك أنه كان يوم أحد في كريسماس العام 1642 والرابع من يناير 1643، لأن وقتها كان التقويمان قيد العمل، وسيبدأ في سرد الأحداث المهمة التي حدثت في التاريخ نفسه من خلال تذكره لعناوين الصحف أو الكتب التاريخية.
إذا كنت قد شاهدت فيلم «Rain Man»، فربما لا تجد هذا الكلام غريباً، لكن لعلك لا تدري أن قصة الفيلم مستوحاة من شخصية حقيقية، هو الأمريكي كيم بيك الذي ولد في نوفمبر من عام 1952، وقد كان في مقدوره حفظ الكتب عن ظهر قلب منذ عامه الأول، لقد كان لـبيك ذاكرة استثنائية. كان ما يميزه شيئاً بالغ الندرة لا علاقة له بالذكاء نهائياً؛ إذ بلغ معدل ذكائه 87 نقطة فقط!
لقد عانى كيم بيك من متلازمة الموهوب Savant Syndrome، وهي حالة نادرة يظهر فيها الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات النمو -وبخاصة اضطراب طيف التوحد - قدرات ومواهب خاصة.
التوحد، ذاك المصطلح الغامض الذي طالما استخدمه زملاء الدراسة كمسبة للأشخاص المنعزلين أو قليلي الانفتاحية، ماذا يقول عنه الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية في نسخته الخامسة، وهي النسخة الأحدث والمستخدمة DSM-5؟
يعرف التوحد على أنه صعوبات مستمرة في التواصل والتفاعل الاجتماعي وغير الشفهي، بالإضافة إلى أنماط متكررة من السلوكيات أو الأنشطة أو الهوايات أو حتى من الكلمات.
تعتمد الأعراض المُشخصة للتوحد في الدليل التشخيصي على مقاييس محددة، تعتمد تلك المقاييس إذا ما رافق التوحد اضطرابات نمو أخرى أو لا.
لفهم التعريف الأساسي للتوحد ليس بوسعنا أن نضرب مثالاً أفضل من ذاك الوارد في مسلسل عرض مؤخراً، مسلسل «حالة خاصة». يجسد البطل شخصية محامٍ مصاب بالتوحد يجاهد في تكوين علاقات مع البشر، ويجد صعوبة بالغة في فهم العبارات غير الصريحة؛ إذ يميل لفهم الكلمات حرفياً، وهو ما ظهر في مشهد المُوكلة المتهمة بقتل زوجها. تبدأ كل حلقات المسلسل بيوم جديد، يقوم فيه البطل بنفس روتين الاستيقاظ، يتناول نفس الفطور ويستمع إلى نفس الألحان، حتى إنه حين أراد أن يغازل زميلةً أعجبته، استخدم نفس الكلمات لأكثر من مرة.
لقد حطم مسلسل «حالة خاصة» الصورة السائدة عن مريض التوحد المنعزل، الذي يواجه صعوبات في الحديث ويعاني من مستوى ذكاء IQ منخفض، ويمكن أن تتعرف عليه بسهولة وسط الحشد، لقد فتح أعين مشاهديه على أنواع التوحد الأخرى التي قد تتواجد بيننا، وأن مريض التوحد قد يكون هذا الطالب العبقري الذي ينال حسد الجميع وإعجابهم في صفك، فما أهم أنواع هؤلاء؟
هل تذكر دهشتك في المدرسة يوم أمسك مدرس العلوم بالمنشور الثلاثي ممرراً الضوء الأبيض لتخرج من الناحية الأخرى ألوان قوس قزح السبعة، ليخبركم يومها أن هذا يسمى تحليل طيف الضوء المرئي؟
يمكن تحليل أي ضوء مرئي ليعطي طولاً موجيِّاً معيناً يقع على المقياس، بمعنى آخر يمكن للإنسان رؤية مدى واسعاً من الأضواء التي يختلف الواحد منها عن الآخر في التردد؛ لأنها تقع ضمن طيف الضوء المرئي.
كما الضوء، يوجد التوحد، غير أن لدى تحليل التوحد لن نجد سبعة ألوان من الأحمر حتى البنفسجي وإنما سنجد أربعة أنواع، وتلك الأنواع تنطوي على مدى آخر من الألوان وتفصل بينها حدود غير واضحة. تماماً كما الضوء الأبيض، فالتوحد طيف هو الآخر، وأي حالة مرضية ذات أعراض مختلفة - طول موجي مختلف - يمكن أن تمثل نقطة على هذا المقياس.
أربعة أنواع فرعية مختلفة من التوحد تم تحديدها في الدماغ
1- متلازمة أسبرجر Asperger’s syndrome
لقد وصف مسلسل «حالة خاصة» مريض توحد مصاباً بمتلازمة أسبرجر، على الرغم من أن هذا المصطلح قد جرى استبداله بالمستوى الأول من طيف التوحد، إلا أنه ما زال منتشراً بصورة غير رسمية، يملك المصاب ذكاءً فوق المتوسط؛ لذا يعد هذا النوع من التوحد هو الأذكى من بين كل الأنواع، والنوع الذي سيشمل العباقرة المصابين، إلى جانب الذكاء يمتلك مهارات لغوية قوية، وهو ما ظهر في استرسال البطل في حديثه طوال الحلقات، لكن سيعاني من أمور أخرى لمسناها أيضاً في الأحداث مثل:
2- متلازمة ريت Rett Syndrome
على الرغم من أن النسخة الأخيرة من الدليل التشخيصي لم تعد تصنفها ضمن طيف التوحد؛ لأنه ينتشر في الإناث على عكس التوحد الذي يصيب الذكور بالنسبة الأكبر، إلا أن البعض لم يزل يراها في مكانها القديم كتابع لا كمرض مستقل. يمكن للطفل المصاب بمتلازمة ريت أن يحيا حياة مرحة -على عكس بقية الأطفال المصابين بالتوحد - إذا حظي بالرعاية الكافية.
وتشيع فيها الأعراض الآتية:
3- اضطراب الطفولة التفككي CDD/ متلازمة هيلر
في هذا النوع من التوحد بعد أن يمضي الطفل فترة طبيعية في النمو، يبدأ كل شيء في التراجع مجددًا؛ مما يصيب الوالدين بالإحباط الشديد، فنجد أعراضاً مثل:
4- متلازمة كانر
تعرف أيضاً باضطراب التوحد الكلاسيكي، وتشمل أعراضها القوالب النمطية التي نعرفها جميعًا بالفعل عن مرضى التوحد، يبدو الطفل المصاب جذاباً، ذكياً
ومنتبهاً، إلى جانب إظهاره لبعض من أعراض التوحد الكلاسيكية مثل:
رغم النجاح الباهر الذي حققه مسلسل «حالة خاصة»؛ إذ تناول مرضى التوحد بعيداً عن الصورة النمطية التي حددها لهم المجتمع، ففتح أعيننا عن نوع آخر من التوحد متلازمة أسبرجر، وجرَّنا بعيداً عن متلازمة كانر التي كانت تقتصر نظرتنا عن التوحد عليها فقط، عن أناس منعزلين ذوي صعوبات في التواصل والحديث قلما ينخرطون ضمن المجتمع، على الرغم من هذا، فإنه وقع في الخطأ نفسه حين تناول الصورة الأكاديمية المتعارف عليها في المراجع العلمية، وهي على صوابها ليست بتلك الكثرة.
إن الفروقات الهائلة التي تتواجد بين مريض توحد وآخر من شأنها أن تجعلنا نمثل كل نقطة على طيف التوحد منفصلة كنوع بمفردها. لا يتشابه مريضا توحد البتة، يعز علينا أن نثبت خطأ الأبحاث التي طالما أُجريت عن هذا المرض، لكن حياديتنا العلمية ترغمنا أن نذكر ما ورد فيها حتى لو كان من شأنه أن يهد جدار معرفتنا بأكملها عنها. ليس للتوحد أربعة أنواع فقط كما ذكرنا سلفاً، البعض يقول إنهم خمسة وآخرون يقولون سبعة، ويجيء آخرون ليخبرونا عن خطأ هذا وذاك وخطأ التصنيف من أساسه وعن خروج معظم المتلازمات منه، وأن بمقدورنا فقط أن نصنف التوحد على أساس درجة تفاقم المرض ومقدرة المريض على الأداء دون الحاجة لمساعدة الآخرين.
إن كل تلك الأشياء ليست مهمة ولا تعنينا في شيء، في العادة يوضع التصنيف حتى يمكننا من معرفة معلومات سابقة عن شيء بصدد التعرف عليه، لكن التوحد لا يتشابه به مريضان. في الآونة السابقة يجد الأطباء النفسيون صعوبة في تشخيص مرض التوحد، وقد يخطئون تشخصيه بمرض آخر مثل اضطراب الشخصية الوسواسية، اضطراب فرط الحركة وتشتت الذهن، الشخص مفرط الحساسية، فلمَ يقعون في مثل تلك الأخطاء؟
باديء ذي بدء، حين تعرف الأطباء على مرض التوحد صُنف في الحال على أنه اضطراب في النمو، كانوا محقين حين فعلوا ذلك، كيف لا؟ والصورة الكلاسيكية التي تعارفوا عليها وقتها تشي بالكثير من الصعوبات في النمو، إلى جانب زيادة احتمالية أن يأتي التوحد مصحوباً باضطرابات أخرى في النمو، كل الطرق أدت إلى وضع التصنيف القائم للتوحد في الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية، التوحد هو اضطراب في النمو العصبي Neurodevelopmental Disorder تنشأ خلاله الوصلات العصبية للمخ بطريقة مختلفة عن الطريقة الطبيعية السائدة بين البشر؛ مما يؤدي إلى منح الشخص المصاب مزايا ونواقص كذلك.
لدى مريض التوحد لا ريب قدرات أقل في التفاعل والتواصل، لكن مثبت بصورة لا غبار عليها أيضًا أن لمريض التوحد ذاكرة بصرية فائقة، حتى إن بعض الأبحاث تقول إن لدى مرضى التوحد حدة بصرية نتيجة لزيادة عدد المستقبلات الحسية البصرية لديهم، والكثير من الأحداث الأخرى تثبت أن لمرضى التوحد ذاكرة فائقة، وأخرى تخبرنا أن سبب ضعف تواصل المصاب بالتوحد مع البشر هو شدة حاسة السمع لديه؛ إذ يصغي لكل شيء حوله.
إذا حادثت شخصاً مصاباً بالتوحد ولم ينتبه لك، فربما هذا بسبب قوة حاسة السمع لديه؛ إذ لا يسمع صوتك فقط بل يسمع كل شيء في الخلفية، خرير الماء إذا كنتم واقفين عند بحيرة، ومحادثة بالجوار إن لم تكونوا الوحيدين الواقفين هناك.
حسناً إذا كان التوحد يمنح أصحابه بعض المزايا المهمة في مقابل أخرى ينتزعها منهم، فلِمَ نعتبره مرضاً؟ لِمَ لا نقول مثلاً هذا مقابل ذاك؟ لماذا يُصر البشر على أن التوحد هو خلل في النمو العصبي وليس طريقة أخرى يتبعها المخ في النمو؟
عام 2012، قدم العالم - المصاب بالتوحد - دميان ميلتون نظرية جديدة تقترح أن المصابين بالتوحد ليس لديهم صعوبات في التواصل، وإنما تكمن مشكلتهم في الأشخاص الذين يتواصلون معهم. بمعنى أبسط، يمكن للمصابين بالتوحد أن يتواصلوا بعضهم مع بعض بنفس السلاسة التي يتواصل بها الأشخاص غير المصابين بعضهم مع بعض، لكن لا يمكنه فعل الشيء نفسه مع غير المتوحدين، وعليه فالمشكلة لا تتعلق نهائياً بضعف قدرات التواصل لدى مصابي التوحد بل بطريقة التواصل نفسها.
لاختبار تلك النظرية، قامت الباحثة كاثرين كرومبتون عام 2020 باختبار يشبه لعبة التليفون التي نعرفها جميعًا، يهمس أحدهم برسالة لشخص ما، ثم يخبر الشخص الثاني هذا الخبر لثالث، ويخبر الثالث رابعاً وهكذا، ثم ننظر في النهاية مدى دقة الرسالة النهائية بالنسبة للرسالة التي بدأنا بها، كلما زادت درجة التواصل بين الأشخاص كانت الرسالة النهائية دقيقة.
اختبرت كاثرين كرومبتون تلك التجربة على ثلاث مجموعات، كانت الأولى من أشخاص عاديين، والثانية بعضها أشخاص عاديون والبعض الآخر مصابون بالتوحد، بينما اشتملت الثالثة على مصابين بالتوحد فقط.
جاءت النتائج متفقة ونظرية مشكلة التعاطف المزدوج، بالنسبة للمجموعة التي اشتملت على مصابين بالتوحد فقط أو أشخاص عاديين فقط، تساوت النتائج؛ إذ تمكن الفريقان من الإبقاء على دقة الرسالة بدرجة جيدة، بينما في المجموعة الأخيرة التي اشتملت على أعضاء غير متناغمين من الأشخاص العاديين والمصابين بالتوحد، تعرضت الرسالة للتحلل بسرعة.
أثبتت تلك التجربة مشكلة التعاطف المزدوج، وهدمت الزعم القائل إن لدى المصابين بالتوحد مشاكل في التواصل، إن كلمة مشكلة التعاطف المزدوج تعني أن سوء التواصل بين طرفي المجتمع - من المصابين بالتوحد واللامصابين - مشكلة تقع على عاتقي الطرفين معًا، وليس على عاتق الطرف الأقل نسبة من المصابين بالتوحد كما كان يعتقد دومًا.
لطالما أُلقي باللوم على المصابين بالتوحد أنهم يفتقدون التعاطف تجاه البشر، وجرى اتهامهم أنهم لا يولون الآخرين أي مشاعر، لكن كل ما في الأمر أنهم يتحدثون لغة شعورية أخرى ليس إلا.
إن مثل نظرية التعاطف المزدوج لا تلقى رواجاً في الوسط العلمي؛ لأن الحدس العلمي يرفض انهيار كل تلك الأبحاث التي تعولها جهود عشرات السنين. لقد تعود البشر دوماً أن هناك طريقة سليمة لكل شيء، وغير مرحب بأي شيء آخر، من الأسهل أن نصنف الأشياء إلى طبيعي ولا طبيعي، على أن نبذل جهوداً متساوية لفهم طبيعة كليهما كل على حدة.
وبالكيفية نفسها تطور المجتمع العلمي ليعتبر التوحد شيئاً غير طبيعي، بينما لو دققنا البحث فقد نكتشف أن المتوحدين أشخاص لديهم قدرات خاصة، تماماً مثل كيم بيك، الذي يختلف الأطباء حول توحده حتى الآن.
تنشط في أدمغة المصابين بالتوحد مناطق مختلفة عن البشر العاديين، ويؤدي بهم ذلك إلى فقدان قدرات - بالنسبة إلى غير المتوحدين - لكنهم في المقابل يكتسبون قدرات أخرى يعجز البشر العاديون عنها. إن المخ البشري معجزة بوسعه فعل أي شيء، ويمكن استخدام نماذج أدمغة المصابين بالتوحد من أجل فهم أفضل لحدود الطاقات البشرية.